عرفت أنني سأختبر تجربة مختلفة, عن كل سابقاتها بالعواصم العربية التي زرتها, عرفت ذلك حين وقفت بشرفة غرفتي, بفندق كازا دور بشارع الحمرا, حين كان بوسعي رؤية قلب بيروت المتأجج بالثمل, ومراقبة أهلها الذين كأجنحة الفراش, يغادرون لحلمهم المسائي.
حلمهم الذي كطائرٍ طليق, يُبدّل مكانه موسماً بعد موسم، باسطاً جناحيه على الأحياء الراقية, لكنه يأبى التحليق فوق أحياء الفقر والمقاومة والحرب الأهلية.
حلمهم ذاك, تأبط حقيبته المملؤة بالصخب وحب الليل, وسافر إلى روائح النراجيل في ميدان البرغوت, وشارع رياض الصلح.
من شرفة فندقي العالية هناك, كان بوسعي رؤية قلب بيروت المُحمر، وشذرات الرصاص المذاب فوق جلدها, وهي تستقبل أُناسها بأقنعة الظباء, يلوذون في المساءات بميادين فيردان والروشة وسان جورج.
يتسوقون بشراهة, من آلاف الحوانيت الشهيرة للملابس والساعات والعطور الباريسية.
يبحثون بكورنيش المزرعة, والرملة البيضا, وعين المريسة حتى ساحة سيسين بقلب الأشرفية, عن مكان يصفّون فيه سياراتهم, الأكثر عُرضاً من أحياء الجناح, وحي الأوزاعي, وحارة حريّك, حيث العالم في سلام مع كل الأشياء، مستمتعاً بغير عناء بالطواف بكسروان وأرض لياس, التي ينتصب تمثال يسوع المَلك على إحدى حرشاتها فاتحاً ذراعيه للسواح, والعربات الهوائية الموصولة بأسلاك الكهرباء تُقل المتنزهين للجبال التي بلا ذاكرة, تتعالى بعنفوان على الأزقة التي تبحث عن اسم، تبحث عن يدٍ تنتشلها، وعن نداء يغور فيها حد إطلاق العنان للكلام فلا تستطيع.
تكتفي بالتطلع إلى واجهات العاج والكريستال، وتراقب مبتسمة الأجساد الممشوقة تخاتل أعين الرجال المتسعة كقمر على الشرفة.
حلمهم المُخملي, يملأ كان حقيبته بالنعاس, فلا يصل لشوارع أولئك الذين ماتوا غير سعداء, ببرج البراجنة وحي الغبيرى, يتراجع مرتداً عند دوار شاتيلا فلا يُحيط بأولئك الذين عاينوا أوجاعاً لا حصر لها، ولا يعلم شيئاً عن نسائها البائسات, بعيونهن التي أدماها الفقد.
ينعس كان وينعس وينعس في عيون أسراها المعذبين, فلا ينتظر برهة لسماع كلمة الينابيع حين تصير وشوشة بالضاحية, ولا تنزلق عيونه السماوية على صور الشهداء والمناضلين, ولا يشتري تذكرة واحدة, ليرى قسمات الطرق التي تهِب فقط الموت, الموت الواسع كالحياة.
لا يريد أن يرى تلك الطرق التي لا تعرف من يتبعها، ولا ما ينتظرها, تكسر أظافرها وتسقط على التراب جريحة, مخضلةً, بدم السنين وقتال الأخوة.
ويسقط أخيراً في النوم حتى لا يعود يسمع الألف نحيب, تتردد بساحة بشارة الخوري, والخط الفاصل بين المسيحيين والمسلمين, وآثار الحرب الأهلية, وصدمة ثقوب الرصاص في الحارات المقصوفة على الجانبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك مُعرف أو غير مُعرف يهمنا المضمون فقط