السبت، 15 سبتمبر 2012

الحاج سالم. 2.حنان النويصري

حنان النويصري
   محملا بالرتابة و الانسياق,قاد الحاج سالم سيارته متجها لمقر عمله الذي يمقته منذ ربع قرن..توقف جانبا لبرهة و قد شعر باختناق  يحاصره و يثقل عليه....نزل من سيارته بعد أن ركنها على جانب الطريق المحاذي للشاطئ...جال ببصره على الشاطئ الممتد كأنه يبحث عن بقعة يألفها..ارتمى بجوار الصخرة الوحيدة ..و ناء عليها بثقله متكئا...مستأنسا بصوانها الذي صقله الموج..التقط علبة سجائره من جيب معطفه...نفث دخان السيجارة الأولى ...الثانية....الثالثة...وهو يتذكر قائمة البقالة التي طلبتها منه أم البنات...نعم أم البنات...التي باءت محاولاتها الحثيثة  لإنجاب الذكر على مدى زواجهما المديد بالفشل...و بدل أن يأتي الذكر ..اكتظ البيت بالبنات ..و ضاعت رفيقته و تضاريس جسدها  المنهك وسط الزحام.
ضيعها ام ضيعته؟؟؟لم يعد يدرى بل انه لا يريد أن يدرى...و لكن ما هو موقن منه ..بان هناك في صدره فجوة...جوع أزلي للحب و الجنس..و أن نساء الأرض جميعهن لن يكن قادرات على سدها .
فمنذ زمن و هو يلاحقهن يشتت نفسه بينهن يلاعبهن..يعبث معهن او بهن لا يهم...يجمعهن مثنى و ثلاثا و رباع على عصمة قلبه. الكبير .تعلم كيف يقضى بينهن..الوقت ..بالعدل..و يحفظ الأسماء المتشابهة..و الكلمات المعسولة و الغزل المستتر و الصريح...و لايذكر كم من حبيبيات مررن علبه ..إيمان...عائشة...سارة...خديجة...و لكن كم كان صعب عليه أحيانا أن يفرق ما بين حنين و حنان...مريم و مرام...ولاء و وفاء..!!!!
كان ماهرا في لعب الأدوار التي تروق لهن..فيكون متحررا مناصرا للمرأة مع ذات الرأس العامر الجميل..و حمش نزق كديك.. مع الرقيقة الخاضعة...و ما بين هذا و ذاك..إذا ما لزم  الأمر..فلكل موقف رجل و لكل صيد حيلة.
رمى علبه السجائر الفارغة بعصبية....و توسد الصخرة التي يتكئ عليها...و شعور بالخواء العميق..بستغرقه...أجهش بالبكاء ..و تحول بكاءه لعويل..و نزف بلا حساب..حتى ارتخى و هدأ و نام........طواه ..حلم  غريب ...البيادر فى الصحراء...الوجوه كالحة...كخبز محترق..و العرق اللامع تحت  وهج الشمس...و القمح المنتصب بتحدي و كبرياء...الحاصدات و المناجل...و شباك  السنابل و مواويل بدوية مفجوعة بالشرق...و عينان حمراوان تترصدان الحاصدات..تتابع بشهوة متوحشة انحناء الأجساد الغضة و استدارات الأرداف و ارتعاشات النهود المعلقة بين الجسد و السنبلة كساعات تتدلى من جدار...عينا دراكولا تسافران من أحراش بنسلفانيا إلى صحراء تيبيستي...تتحول الحاصدات إلى هياكل عظمية...ينتصب هيكل مخيف..و يحمل على أصابعه القضبانية كومة من اللحم ألمفري..تتلاشى كومة اللحم...و يرفع الهيكل المنجل عاليا و يصرخ:
صحراء هذه أم شلى أجساد.....................ام بيض عمري في رحى صياد
و تنتصب  الهياكل بستانا من البياض والرعب و ترفع المناجل عاليا و تسير بإيقاع عسكري صاخب..رتيب ..و واثق نحو الشرق...لا ....بل صوبه هو...فزع و وضع يديه بين فخذيه  و صرخ لا ..لا ...ليس أنا...!!!!!!!!!!
فتح عبينيه رفعهما نحو السماء..كان  الظلام قد لف الشاطئ...حتى انه لم يعد يرى شيئا ..هذه اقل الرؤيا...كان يردد  متلعثما و العرق البارد  يتصبب منه غزيرا...شلالا مالحا حاراً بلا لون...هذه اقل الرؤيا..صرخ و عاوده  صدى صوته من آخر الشاطئ..(هذه أول الرؤيا)..تصاعد داخله الهدير ...كانت أفوج من النمل تغادره....ذهل لحجم النمل الذي كان بسكنه..كانت الأفواج تتدافع خارجة من  فمه و أذنيه  و انفه و تتلاشى في الظلام..بعد وهلة ساد السكون المريب المكان...كان وحيدا...وحيدا جدا...زاد الظلام عتمة ..حتى لم يعد يرى نفسه..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخميس، 13 سبتمبر 2012

تقاطر منك وحمى تغرق بأوصالي!! عرض وكتابة:محمد السنوسي الغزالي


*نشرت بعدد يوم 15 اغسطس من جريدة[الأحوال]الليبية الرسمية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لن نحقق شيئاما لم نتعلم من أخطائناما لم يتحطم هذا العالم بفعل صلواتنا العائليةما لم نكن نحن العالمما لم
تفجر هذه الأرض التي تغلي بين شراييننا الجحيم الموجود في داخلنا.كان أبي كائنا جلديا صامتايحمل في قلبه الحقد والغضب وإدانة الوقت.*
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
• هو ذاته المعنى الذي يطرحه رودريغز..لن نتعلم من أخطاءنا ولذلك نكررها منسوخة ويكون الوطن هو الضحية ثم مبعث الالآم ...لايهم المكان ولا الزمان..فجميع المكابدات تتكرر عند تبعات الأمور..هذه هي حكاية عواطف عبد اللطيف. التي كانت نتاج الألم ذاته. • وتلك هي المسافات التي تؤرق المبدع في الهجرة القسرية.عندما ينكسر ويعجز عن المساهمة في الحلول!!.• ثم الهجرة غير الاختيارية.. المسافات التي تمسك به فلا يشعر بالأمان وإن كان في قلب الأمان.فالأمان يشعرك به الوطن وان كنت بعيداً عنه..فعندما يكون الوطن قلقا يقلق القلب المهموم رغم البعاد.وهذا ما تحيلنا إليه الشاعرة العراقية المهجرية عواطف عبد اللطيف عندما ترسل أشجانها عبر كتابها الوجداني [أتقاطر منك] وكتابات أخرى من نيوزيلندا وهي مهمومة بوطنها وما حوله..تهدي الكتاب لأولادها وأحفادها أيضاً..وفي ذاكرتها شجونها وهمها الممزوج بالحرقة وأيضا بالمرأة التي تسكنها..الوطن الذي تنظر إليه كل يوم يتقاطر دموعاً ودماء...فلذة كبدها كاد أن يقتل في انفجار عام 2009 ضاع ضحيته 40 إنسان غير مئات ألجرحي و المرعوبين.بالمجان..ولا تنسي همومها أيضا كسيدة عربية تدافع عن كينونتها في مواجهة التخلف والخراب فتقول في احد كتاباتها: • (سأثأر لنفسيولكل زوجة فقدت زوجها أمام عينيها أو وجدته في المزابل أو على قارعة الطرقات أو في المشارح او طافيا فوق مياه الترع والأنهار ولا تعرف من الذي قتله ومن الذي اختاره ومن الذي خطط ومن الذي نفذ لتبقى الغصة تكتم الأنفاس واللوعة تذبح الروح ولا احد يمد يد العون ليساعد لان الكل يغني على ليلاه.)[1]• هنا نلتقط بداية الخيط لدى عواطف ففي كتابها "أتقاطر منك"تقرأ الكثير من الأسرار والهموم والمآسي التي تسجل ضد مجهول.هي التي تتجلى بها فرغم مرارة الغربة..لاتشعر بالأمان وهي بعيدة ..فالأمان الذي تعيشه في نيوزيلندا هو أمان نسبي..أمان الجسد فقط أما الروح فهي مرتعبة بالوطن وعليه وبالموت المجاني:• نوارس الروح تحلق فوق شواطئ البعدتتناثر اللحظات الهرمة على الطرقاتما أثقل أن...أنصت لحديث الأرصفة وهي تمسح أقدام العابرينوفي جدار الروح شقوق مشبعة بالهمالحجارة بقيت هناك!!!!تعترض سير المارّةونشيد الرحيل يغرق في بحار مشبعة بالوهملا براري للوجع [2]• إذاً لا أمان برغم المسافات الطويلة بينها وبين الحرائق!!كم هو الوطن مؤلم وجارح عندما يكون ذاته مجروحاً غير آمن..ما أقسى الشعور وأنت تتقاطر للوطن ومنه :• وتراب الوطن المعفر برائحة النخيلومن على خاصرة الصبربين كرٍّ وفَرٍّتتهاوى المسافاتصوت قصير يحصي أفكارييهرول في مداراتيلأعيد ترتيب الزمن وترتيب الفصولأنسى كل أمكنتي إلا مكانك[3] • يقول الشاعر والناقد الشاعر جميل داري عن عواطف في إحدى قراءاته:تسند رأسها المتعبة إلى وسادة الشعر تلوذ به واحة خضراء في صحراء الغربة والمنفىالقصيدة عندها همسة أليمة وصرخة جارحة تمتد من قلبها المثخن إلى آخر نجم شريد تمتشق الشعر للوصول إلى المحال... فشعرها الممتزج برائحة الجرح هو نوع من الحرائق التي تولد كالعنقاء فيها من جديد..إنها تستخدم موسيقى روحها الشجية..[4]• إنها إذا نستولوجيا حارقة تلك التي تعتريها .وشعورها بالظلم يتجلى في حروفها.فذات كتابة بنفس الألم تقول:• في غفلة السنينعندما يختزل الفجر الآهاتترتعش الغيوم خوفاًتنسد آفاق الحلم كيلا يهرب من بين المسافاتتحمل الريح مواويل الفرح في رحلة الضياع خارج المداروشقائق الألم تنبت وتتفتح فوق خاصرة الزمنيجرحني الفراقتتلاحق الانكسارات ويغرز الظلم أشواكه الغادرة داخل روحي [5] • ما أقسى هذه الانكسارات..لذلك أتفهم حجم الألم على العراق لدى عواطف..واعرفه فذات مرة كتبت عن أن كل من لم يرى العراق ونخيلها فهو محظوظ ومن لم يتجول في حدائق حمورابى هو أيضا من السعداء ذلك لأنه مهما أشتغلت المخيلة لن تدرك حجم الجمال ألذي افسد إلا إذا كان قد رآه مرأى العين وهو بكامل أناقته ومهما ذهب الخيال بعيدا لن يعرف ألذي لم تتكحل عيناه ببغداد مساحة السحر الذي تم العبث به لذلك اعتبر نفسي احد التعساء الذين قدر لهم أن يتجولوا فى بغداد والبصرة والفاو وبابل..فكيف إذا كانت هي ابنة العراق التي تنفسته وقاربت العبق فيه؟؟ تعرف حجم الخراب جيداً..بل اجزم أن حجم الألم الذي بها لايستوطن إلا في قلب من خبر بغداد وتنسم أريجها وتكحلت عيناه بسحرها ولذلك هي تقول هنا بالحرف:• وَسَلِ الزَّمانَ اللاّ يُطاقْعنّا.. وعنْ نارِ الوَداعْ وعنِ الفِراقْ وعنِ الأرامِلِ والجِياعْ والباحثينَ عن الكرامةِ في العراقْوالحبّ في زمَنِ الضَّياعْيَنداح ُ فوقَ الكَتْف ِشَوقي للفُراتِ ،وللنَّخيل ِ،وبيتِنا وقتَ الأصيل ِ،وللوُجوهِ السُّمْرِ يَعْلُوها الشَّمَمْونسيمِ بَغدادَ العليلْ وشَذاهُ عندي بالزّمانِ[6]• ذلك هو الوجع الذي حبس أنفاسي ودفعني للكتابة..إذ ليس كل من هو مغترب عن الوطن يشغله ما يحيط به من جمال وآفاق رحبة وحرية كاملة عن الوطن..بل يعيش فيه الوطن بكامله..ربما يتمنى ان يكون وطنه يتماهى مع ماحوله..لأنه يريده هكذا.• ومن هنا نقرأ كيف هي الفجيعة تتنامى في قلبها وتتالى خواطر وقصائد وكتابات فهي في كل ما تكتب ستجد نخيل جيكور ومطر السياب وكل الشناشيل التي يزخر بها وطنها..كأن تقول:• أنت وَحدك من يجيد العَزف على وَتر الإحساس لتغطي أسراب المشاعر وجه السماء وهي تغرد للحياة تمنع خفافيش الليل من احتضان الغيومتشطب تواريخ الوجع من ذاكرتيوتعكس ظلال ابتسامتك الأمل على نهاري أراك بعين قلبي فيهتز نشوة تغمر آفاقيتستدرجني لهفتي إلى طريقك لأستنشق عبير الصباح بقربك [7]• قالت لي كاتبة عربية ذات مرة التقت بها:مبهورة انا بكل هذه الأناقة وهذا الجمال الذي تحمله سيدة بكل هذه الهموم.• في غربتها..تقوم عواطف عبد اللطيف بعديد من المناشط الثقافية والفكرية والعلمية في دائرة هموم الوطن والغربة عنه..فإضافة إلى خبرتها في النظم الالكترونية فهي ناشطة سياسية واجتماعية وشاعرة وكاتبة حضرت عديد من المؤتمرات داخل وخارج العراق و عضوة بالهيئة الإدارية لجمعية الثقافة العربية النيوزلندية..وتهتم بشئون الوطن من مسافات البعد وتتجول في الوطن وحواليه وحوله من فترة إلى أخري..ففيه فلذاتها وأحفادها وملاعب طفولتها.ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
هوامش:• من قصيدة قبلة المجانين لأوغستو رودريغز-من الأكوادور-ترجمة: غدير أبوسنينة 
1. من مقال للكاتبة عنوانه :لو كان الظلم رجلاً لقتلته.
2. مدارات الحنين-كتاب أتقاطر منك.
3. حلــــــــــــــــم- نفس المصدر.
4. من قراءة لجميل داري حول ديوان خريف طفلة للكاتبة.
5. من خاطرة عنيدة هي أيامي للكاتبة.
6. من نص كَثُرَ السؤال-ديوان خريف طفلة للكاتبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ