السبت، 19 نوفمبر 2011

بسمة النسور-الأردن




03 مارس 2006
شهادة إبداعية
بعد صدور أربع مجموعات قصصية لي على مدى سنوات عشر، أجد نوافذ ذاتي مشرعة على الشك في جدوى ما اقترفت يداي، وأطرح أسئلتي المرتابة حول مدى إخلاصي لتجربتي القصصية، وأنا أدرك تماما أنني لم أمنحها سوى الفائض من اكتراثي. أسئلة تظل معلقة مثل الخطايا التي لم يكفر عنها بعد، حتى تحين لحظة المكاشفة ومواجهة الذات. والحق أنها ليست لحظة ممتعة، وغالبا ما أعمل على تفاديها وأنجح، في معظم الحالات، في التهرب من الجردة النهائية لأنها لا تفضي بي إلى الإحساس بالرضا؛ بل تحشرني في زاوية التقريع لذاتي والاعتراف بالتقصير، حيث تتجلى نفسي اللوامة معاتبة إياي على كسلي غير المبرر.
أحاول جاهدة استعادة يقيني الذي تبدد وبراءتي الأولى، وتلك الفرحة “الهبلة” التي كانت تكتسح روحي بسهولة حتى أنتهي من كتابة قصة ما. آنذاك كان بإمكاني أن أقفز بهجة، وأن لا أتورع عن حب نفسي، والتعبير عن ذلك الحب بأكثر الطرق صبيانية. ولم أكن لأتردد في قراءة القصة على مسمع أول ضحية تصادفني لأنتزع اعترافا فوريا، وربما قسريا، بأنني قاصة ليس لها مثيل.
أفتقد اكتشافي المذهل بأن لهاثي الأزلي خلف الحرية ليس له أي ضرورة لأن كتابة القصة تهبني ببساطة شرط الحرية التي أتحرق إليها. وتمنحني مشروعية بناء عالم يخصني وحدي. وتتوجني سيدته. وأعبر من خلالها عن أكثر أفكاري وقاحة وتطرفا وجنونا (أحيانا) دون أن أتكبد خسائر تذكر. وأحّمل مخيلتي الجامحة وقدرتي على التقاط التفاصيل، وفضولي أيضا، وزر انجازي القصصي (وأطلع منها مثل الشعرة من العجين).
أفتقد إحساسي بالزهو حين وصلتني أول رسالة من قارئ مجهول يشكرني على قصة نُشرت في الملحق الثقافي، ويؤكد لي أنها تعبر عما يجول في خاطره بالضبط. وحين قام أحدهم بسلب قصتي ونسبها إلى نفسه، وهاتفني معتذرا ومبررا سلوكه. قال لي:” لقد أحببت تلك القصة إلى درجة أنني تمنيت لو كنت كاتبها. وأحببت أن أعيش الوهم ولو قليلا “.
وكذلك حين أخبرني أحد القضاة أن بيته تعرض للسرقة ليلة العيد، وأن مجموعة ” نحو الوراء” كانت ضمن المسروقات، إضافة للتلفزيون والفيديو!
أفتقد ذلك الزهو الجميل، وذلك اليقين الذي لا يأتيه باطل، بأنني حين أكتب القصص أحدث اختلافا ما وأمتلك مقدرة التأثير على الآخرين. لم تثر الدراسات النقدية العديدة التي تناولت أعمالي القصصية فرحا داخل روحي، وإن كانت تحقق نوعا من الرضى. أما الدهشة الحقيقية؛ فكان مبعثها تلك العلاقات الإنسانية الشفافة التي تكونت مع بعض القراء الذين كانوا يعبرون بعفويه عن إحساسهم بقصصي، فيتضخم إحساسي بالزهو والبهجة. ربما تحول ذلك الزهو إلى غرور أحمق، غير أنه ظل في سياق البراءة والدهشة التي رحلت فيما بعد إلى غير رجعة.
أين تلاشى كل ذلك الألق البكر، والهوج، والاعتناق، والإحساس المتين بجدوى الكتابة؟ بعبارة أخرى، لماذا ينبغي علينا أن نكبر وأن نمتلئ بالعقد ونتحول إلى شخصيات مركبة وننضو عنا ثوب العفوية البهي، ويصبح كل ما يتعلق بنا مدروسا ولائقا وحائزا على إقرار الجميع؟ ثم من قال إن تقدمنا في العمر يعني أن نكف عن الطفولة وكأنها ذنب لا بد من التوبة عنه في مرحلة ما؟!
أنا أعتقد أن هزيمة أي منا لن تكتمل ما دام يمتلك بعضا من ملامح طفولته. لذلك فإن التشبث بطفولتي حتى الموت هو هاجسي الكبير. لأنها حصانتي الأخيرة في مواجهة القبح الذي يطغى على معظم الأشياء، وهي الحاضنة الوحيدة لطاقتي على الدهشة والانفعال والفضول، وبالتالي الرغبة في فعل الكتابة الذي لا يخلو من نزق وتهور.
أعترف أن علاقتي بالكتابة موسمية؛ إذ يحدث أن أغيب عنها لسنوات. وقد يعتريني الشك في مقدرتي أو حتى رغبتي في كتابة المزيد من القصص، وأحيانا أتعامل بحس ساخر مع ما يعتبره الآخرون إنجازا.
وأحس بأن ثمة أمورا أكثر متعة يمكن أن نستثمر ما تبقى من العمر بها، وينتابني العجب من أولئك الذين يكتبون بدم بارد عشرات المجموعات القصصية دون أي تأنيب ضمير، ودون أن تظهر عليهم أي بوادر توبة، أو أن يعتريهم الملل والإرهاق.
أحاول أن أتغلب على قلقي حين يمر وقت طويل دون كتابة، وأتذكر دائما جواب حكيم هندي حين سأله أحد تلاميذه: أين تكون الريح عندما لا تهب؟
أجاب الحكيم: إنها تكمن داخل روحك بانتظار اللحظة المناسبة!
من هذا المنطلق لا أقسو على نفسي، وأتيح لمزاجي المتقلب، كما الريح، أن يحدد علاقتي بالكتابة؛ فلا أذهب إلى القصة بقرار مسبق لأنني أعرف أن لحظة الكتابة لن تأتي إلا في اللحظة المناسبة وعندها. فهي تطغى على كل شيء، وتفرض ذاتها جارفة في طريقها كل ما نظنه من أولويات.
وتظل ولادتي الإبداعية متعسرة، ومع ذلك لا ألجأ إلى الطلق الاصطناعي حتى لو مكث الجنين في أحشائي إلى الأبد. ولا يمكن الاقتراب من الكتابة إلا بعد بلوغ أقصى حالات التوتر حين أحتشد تماما بالشخصيات وهي في الأغلب ليست سوية. ولكن ليس ذنبي أن العالم مكتظ بأولئك المعذبين والمهمشين والمسكونين بالرعب من الموت، والشيخوخة والغياب، والتواقين إلى الخلود، والمتوحدين والمستوحشين والعاشقين للحياة والحالمين بمصائر أكثر رأفة، والطامحين إلى العدل والجمال والحرية. ليس ذنبي أنني أشبههم، وأنني أنجذب إليهم بشكل تلقائي وأرغب في تقمص ملامحهم، وأتفهم رغبتهم في لفت الأنظار إلى عذاباتهم، وأسمح لنفسي باسمهم أن أستغيث وأن أحتج وأشتم وأدين، وربما يصل الأمر إلى القتل أو الانتحار أو النكوص، فأشعر بشيء من الارتياح الذي لا يتوفر سوى بكتابة نابعة من أعمق نقطة في الروح حتى لو بدت ذات لغة محايدة ومكثفة كما يحلو للبعض أن يصف أسلوبي في الكتابة.
أحب البساطة في التعبير، ولا أقع بسهولة تحت إغراء اللغة، وأعتبر أن النص الأفضل هو النص الممسوك والخالي من الثرثرة الفائضة التي تعمل على ترهل القصة. كما تأسرني القصة القائمة على المفارقة حين لا تكون مفتعلة وجاهزة في ذهن القاص ومكشوفة منذ السطر الأول. وأعتبر أن أفضل ما كتبت كانت قصة المفارقة، وأستطيع الإدعاء أنني نجحت في هذا السياق، حتى أن بعض النهايات التي كتبتها كانت تثير استغرابي ودهشتي معا. وما زلت أعتقد أن الكاتب يمتلك حدسا دقيقا حول قصته، ويستطيع أن يتكهن بمدى جودتها.
علينا أن نعترف أن كتاب القصة هم الأكثر دهاء. ثمة ملامح مشتركة تميزهم عن كتاب الأجناس الأدبية الأخرى. إنهم في الأغلب سريعو الملل. قليلو الكلام دقيقو الملاحظة. كثيرو التلفت من حولهم. فضوليون بطريقة مزعجة، عصابيون. يتصرفون كجواسيس. باطنيون. ولا ينصح بوضع الثقة بهم وينبغي التصرف معهم بحذر، فهم متحفزون دائما ولا يتورعون عن توظيف أي موقف مهما بدا ثانويا في قصة قادمة!!.
وهم يتمتعون بحساسية عالية تجاه الأشخاص والأحداث والأمكنة. والأنا لديهم ليست بالتضخم المألوف لدى باقي الكتاب. ومع ذلك، فإنهم يستحقون التعاطف لأن إنجازهم القصصي مهما بلغ من التميز فإنه لا يؤخذ على محمل الجد ما لم يتوجونه بأعمال روائية، على اعتبار أن الرواية هي الأصل والقصة ما هي إلا تنويع قاصر، أو مجرد تدريب على كتابة الرواية.
كثيرا ما كنت أواجه بسؤال حول كتابة الرواية باعتبارها مرحلة أكثر تطورا وجدية. بالنسبة لي، فقد تخلصت من هذه العقدة التي عانيت منها لفترة، ولم تعد تشغل بالي أو تقلل من قناعتي بأهمية فن القصة، حتى لو كان جمهورها في تناقص.
وماذا بعد؟
كيف لي أن أصفي حسابي؟ كيف أوازن بين فرحي بما حققت، ورغبتي في التنصل من هذا المد والجزر الذي أعياني وجعلني في تحفز دائم؟ حالة تشبه الجنون. يخيل إلي أن الكتابة ضرب من الجنون، رغم أننا نكتب بوعي كامل. ولكن أليس اكتمال الوعي يكمن في غيابه؟ ما الذي يضيرنا لو أقررنا بجنوننا أحيانا؟ أليس المجنون هو أكثر حرية؟ إلا يحصل على مشروعية مطلقة لارتكاب أكثر الأفعال الغرائبية والتفوه بأكثر العبارات جراة ؟ أوليست أحلامنا تعبير عن الجنون الكامن فينا؟ إلا تحاول الكتابة الاقتراب ولو قليلا من عوالم الحلم. فلنكن مجانين إذا حتى يتسنى لنا تفهم ما يدور حولنا، ولنصدق حكاية العالم الذي تحول إلى قرية صغيرة كل ما فيها مكشوف ومتوقع ومقبول.
أحس الآن أن كل قصة أكتبها سوف تسلبني حفنة من روحي. ويخيل إلي أن ثمة قصة قاضية سوف تركلني بعيدا عن حلبة الحياة، وترسلني مباشرة إلى حتفي. لذلك أخاف من التورط تماما في فعل الكتابة.
ثمة إحساس لدي بأني في سباق محموم مع خصم غامض وإن شارة النهاية بدأت تلوح. في روحي جشع هائل للحياة, أريد أن أحياها ضمن ما توفره من لحظات فرح خاطف. تفر مني قبل أن أتمكن من القبض عليها تماما. أريد أن أتشرب ما تبقى من هذا العمر الذي مضى كحلم غير قابل للتفسير، وأن أنهمك في حاضري المليء بالرعب والتوتر. إن أمشي صباحا في شوارع خالية إلا من نعيق غربان لم تعد تثير تشاؤمي من فرط التكرار. أريد أن أتناول قهوتي الصباحية برفقة الجارة التي لا تعاني من أي قلق وجودي. أريد أن أشتاق إلى أصدقائي وأن أخاصمهم أحيانا. أن أرسل ورودا تعبر عن شماتة إلى صديقتي التي بلغت الأربعين. أن أثير حنق البائع في المساومة ثم لا أبتاع شيئا. أن أنزعج حين يحرر لي الشرطي مخالفة مرور بسبب الاصطفاف في مكان ممنوع. أن أذهب إلى مصفف الشعر وأن أقرأ حتى يحين دوري عن مستجدات الصراع بين نوال الزعبي وأصاله.
باختصار، أتوق إلى حياة عادية بلا أحلام كبرى ومسؤوليات جسيمة وقلق ينحت روحي حيال قصة كل مرة أنسجها على مهل، ثم تنسل بخفة لص، وتخلفني متنبهة مثل ضمير يتقن التأنيب في لحظة، وأعصاب مشدودة كمسدس محشو وضع في يد مجنون، ومشحونة بانتظار عودتها الباهرة التي تشي بانسلال محتمل فيما لو بدأت بكتابتها فعلا!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك مُعرف أو غير مُعرف يهمنا المضمون فقط