السبت، 19 نوفمبر 2011

بــــــــــــــــــــــراءة..رائدة زقوت..الأردن





سأتبرأ مني ..هذا القرار الوحيد الذي اتخذته بالإجماع مع نفسي وباقي النابضات بالعقل من الحواس ، لن أحتاج للكثير من الجهود أو فلسفة الأمور بطريقة دراماتيكية أو عقلانية كل ما هنالك أن علي أن أجهز الأمر بطريقة فنية غير مسرحية أو دعائية " بطبعي لا أعشق تسليط الأضواء عليّ كفرد متأرجح داخل مجتمع يعج بهواة عرض العضلات وحب الشهرة وتسليط الأضواء " ..



قررت أن تكون البراءة متقنة  ،صادقة  ، لا تحتمل أكثر من معناها الذي أريده في الواقع ، لذلك أخذت رأي الحواس بجملتها حتى لا أُلام  لاحقا على هذا القرار المصيري ، بداية تجهزت داخلياً لذلك التغيير الذي سيواكب البراءة وما يليها من انسلاخ عن حياة حافلة بما يعجز القلم عن صوغه من أمور سواء تلك السوداء أو بعض النقاط البيضاء أو حتى ذلك الرمادي الذي اندسّ لاحقا في حياتي فأحالها لحياة لا لون لها ، عالقة بين أن تحارب السواد أو تتجه للبياض أو تبقى كالحمار الذي طلي بيد فنان ماهر ليبدو للناظر حماراً وحشياً وجاءته غيمة عابرة وأحالته لحمار رمادي فنسي أنه حمار عادي ولم يفلح بأن يكون حماراً وحشياً ، فضاع بين هذا وذاك .
 جهزت ملابس بيضاء لأعود كيوم ولدتني أمي ، نقية ، تلتحف البياض من رأسها حتى أخمص القدم أو ربما كلون الأكفان التي لا بد أن يتم إلباسنا إياها ونحن لا نملك عندها حق رؤيتها في  المرآة ولا حتى نشعر فيها كوننا نكون قد ودعنا هذه الدنيا للوقوف بين يدي "الرحمن الرحيم "  تدثرت بالأبيض جيداً وتوجهت صوب ساحة المدينة حيث جلس المعنيون بأخذ صكوك البراءة وأخذ الدية من المتبرئ من نفسه والطبيب المختص بسحب الدم وإبداله بدم آخر تمت معالجته بطريقة حديثة وطبيب آخر يقوم بالتنويم المغناطيسي كي يتم طرد الشخصية المراد البراءة منها .
كانت المراسم معقدة بعض الشيء ، في البداية تم أخذ الدية وقد كانت مبلغاً كبيراً نوعا ما قمت بادخار بعضه منذ خطرت فكرة البراءة لي والباقي قمت بأخذه من محسنٍ كان يود الخلاص مني وقام بتوقيعي على " وصل أمانة " بأن أعيد المبلغ مضاعفاً عدة مرات في حال لم أقم بالبراءة مني ، ثم كان هنالك القسم بأنني الراغبة بالبراءة ولست مدفوعة لها من قبل أشخاص آخرين ، " ويحهم حين يجرؤون على دفع أحدهم للبراءة من نفسه" ، لا أظن أن أي قوة في العالم تدفع أحداً للبراءة من نفسه غير نفسه ، أقسمت اليمين وبدأت مراسم العمل الجاد ، تم تجهيز السرير والأطباء المعنيين بالموضوع العلمي للبراءة ، تم تركيب أجهزة سحب الدم وتجهيز الدم الجديد الذي سيتم ضخه في جسدي بعد أن يتم الطبيب عملية سحب الأول ،  وذلك بعد أن يقوم الطبيب النفسي بتنويمي مغناطيسيا حتى ينزعني مني ، لا أعرف لمَ انتابني الفضول لأكون متيقظة أثناء عملية تبرئتي مني فتظاهرت بالنوم كما يريد الطبيب المختص بالتنويم المغناطيسي ، فأغمضت عيني وبدأت أتابعه وأنا حذرة جداَ من أن أقوم بحركة تظهر بأنني ما زلت مستيقظة ، كان الطبيب يوحي لعقلي بأن الخلاص من هذه المختلة المتعبة هو الحل الأمثل له للبقاء ، وكان يزين له الحياة القادمة بعد البراءة ، حياة بيضاء لا سواد فيها وعيشة ملؤها الهناء والسعادة والأهم أن النقاء سيكون هو المرادف للبياض القادم ، ضحكت بصوت مجلجل في أعماقي من هذا الداعي للنقاء والبياض وخاصة أنني أعرفه جيدا فقد كان يحول" مرتادي عيادته للعلاج من ناصعي البياض إلى أشخاص باللون الأسود القاتم" .
أنهى ذلك الطبيب المدعي دوره وأوعز للطبيب الآخر بأن يباشر عملية سحب الدم ، لاحظت انشغالهم وأنا مغمضة العينين ، فقررت فتح إحدى عيني قليلا لأشاهد باقي عملية البراءة ، يا إلهي كان لون الدم الجديد أحمر مائعاً وكأنه مُزج بالحليب ، أغمضت عندما اقترب مني الطبيب وهو يحمل بيده الأجهزة التي سيتم تركيبها في جسدي لتقوم بسحب الدم ، تألمت جداً ومع ذلك حاولت أن أخفي الألم حتى تتم العملية كما يجب رويداً ..رويداً بدأت أفقد القدرة على البقاء مستيقظة ، ضعف عام سرى في جسدي ، ثم فقدت حاسة السمع ، حاولت فتح عيوني ولم أفلح أيضا ، بدأت الحياة حولي تأخذ اللون الأبيض وغبت في غياهب الأبيض .
بعد وقت لا أعلم هل هو طويل أم قصير ، استيقظت ... كل ما حولي كان أبيض اللون الأرض ، السماء ، جسدي الذي تحول للون الأبيض الحليبي ، ...، تنفست الصعداء وحمدت الله على هذه النعمة التي وهبني ، حاولت الاسترخاء وسط هذه اللجة البيضاء ، ألقيت بجسدي على الأريكة البيضاء وما هي إلا دقائق حتى بدأ شيء ما يتسرب من أنفي وعيني وفمي وينتشر على تلك المساحات البيضاء ويحولها للون الرمادي المنقط بالسواد عندها أيقنت بأني فشلت في البراءة مني ....!!   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك مُعرف أو غير مُعرف يهمنا المضمون فقط